(لن أواجه الموت، وأنا وحدي.)




ست عجوزة، ساكنة في العمارة بقالها 15 سنة، حركتها بسيطة، وحيدة، مالهاش لا إبن، ولا زوج، ولا قرايب، دلوقتي إتضح ليه هي عايشة في الدور الأول..
- بتصرف منين؟
كانت كاتبة، عملت كتب كتير، ومبيعات الكتب دي تعدت الـ10 مليون دولار.. كل شهر بيجيلها وديعة من البنك، ومش عارف بتصرفهم في إيه.
لما زرناها حسينا بحاجة غريبة ومش منطقية..
كان عندها في الشقة 4 غرف نوم كلهم مفروشين، سفرة كبيرة جدا وطويلة، كان عليها أطباق كتير وفناجين قهوة سخنة، أكل كتير جدا.
- كانت عازمة حد عندها؟
لأ! ده الغريب في الموضوع، كانت مرتبكة من وجودنا.. قاعدة على كرسي متحرك، على رجلها قاعدة قطة كبيرة، عينيها مخيفة، القطة كانت بتلاعب حد واقف جنبها.. كانت عيني على تحركاتها.. ونظراتها.. لحد ما حسيت إن فيه حد موجود.. حد أنا مش شايفه!
البخار اللي طالع من فناجين القهوة.. الكتير اللي على السفرة. خلى جسمي يقشعر..
نفس الفكرة جاتلي.. فيه حد موجود أنا مش شايفه!؟
- قصدك أشباح مثلا؟
ده اللي كنت فاكره.. الزيارة دي رغم ان خوفي خلاها تكون قصيرة.. فضولي خلاها ما تطلعش من بالي أبدا..
مشيت.. وقلت لجارتي العجوزة لو احتاجت أي حاجة، تعرفني، وتطلبها مني..
قالتلي بابتسامة: "أنا عندي كل حاجة ممكن أحتاجها، ولكن شكرا لعرضك."
ربتت على كتفها، كإن فيه إيد محطوطة عليه!
قررت أمشي بسرعة.. قبل ما افقد عقلي تماما...
تاني يوم وأنا راجع من الشغل، وقفت عن أول درجة في السلم، افتكرت اللي حصل امبارح، قررت أتسحب، وأروح عند باب شقتها..
حطيت وداني على الباب.. سمعت أصوات كتير، ضحك، وصوت أطفال، وهبد كورة! .. صوت كلب وقطة.. ضحك بنات كتير، وشميت ريحة دخان..
خبطت على الباب.. مش فاهم نت بفكر في إيه، بس كنت عاوز أشوف الناس اللي سمعتهم!
فتحتلي الست العجوزة.. بصيت لجوه، القطة كانت بتجري وتلف في دايرة..
السفرة كانت مرصوصة، وعليها أكل كتير مختلف عن أكل امبارح!
سألتني: فيه حاجة؟
اترددت، مش عارف أقول إيه! .. قلتلها: لأ.. أنا بس سمعت أصوات، بيتهيألي إني سمعت أصوات ناس، فقلت أكيد عازمة حد عندك، فقلت.. أسألك لو محتاجة أعملك أي حاجة..
بصتلي بغضب، قالتلي: مش محتاجة حاجة.. شكرا مرة تانية.. وكانت هتقفل الباب، لكن فتحته مرة تانية وقالتلي: ما تشغلش بالك باللي بيحصل هنا، أنا عاوزة أعيش في سلام.. أرجوك ما تتدخلش في حياتي..
اعتذرتلها، وقبل ما أكمل جملة اعتذاري قفلت الباب في وشي، وهي بتقفله شفت كورة بتتحرك جنب القطة!
أنا مش مجنون! .. حطيت ودني مرة تانية على الباب..
خبطت الست العجوز من جوه على الباب، كإنها بتقولي امشي.. أنا شايفاك!
..
طلعت شقتي.. وفضولي بياكل فيا..
قررت أكشف سرها، أعرف اللي بيحصل..
اشتريت كل كتبها، سألت عنها كل اللي كان يعرفها.. واللي عرفته كان قادر يطير برج من دماغي..
كانت بنت شابة جميلة، الحياة فاتحة دراعاتها الاتنين قدامها.. لحد ما عملت حادثة، حادثة من شأنها إنها تخليها عقيم..
ما تقدرش تخلف، رغم كده اتقدملها ناس كتير، وكانوا بيدعوا حبها..
لكنها كانت دايما حاسة بالنقص.. وإنها عمرها ما هتقدر تعوض اللي خسرته، ولا تتجوز، وتربط حياتها بحياة شخص تاني..
وقتها اتجهت للكتابة، والأشياء اللي كانت محرومة منها في الحياة، قدرت تحصل عليها على الورق.
كانت بتكتب دايما إنها البطلة في كل كتبها، بطلة بتلاقي فارس أحلامها، بتتجوزه، بتخلف منه بنات وولاد كتير، عندهم مزرعة هادية قريبة من البحر، عندهم كلب، وقطة،
ورواياتها كانت بتفضل تحكي حياة بنت واحدة، حياة تصاعدية، سعيدة، بتتجوز وتحصل على أول بناتها في أول رواية، بتنجب تاني في تاني رواية، وتبدأ تعيش الحياة كأم، وكزوجة..
خلصت أخر رواياتها، وهي جدة، عندها عيلة كبيرة.. وعندها أحفاد.. كلهم بيعيشوا معاها في بيتها الواسع.. كلهم هيفضلوا جنبها لحد أخر أنفاسها.. أخر جملة كتبتها، كانت
"لن أواجه الموت وأنا وحيدة."
..
خلصت قراية.. وأنا بأبكي.. كنت حاسس إن اللي قريته أكتر من إنه يكون مجرد خيال كاتبة. حبيت الحياة اللي قريتها.. حبيت العيلة..
وقتها بس، حسيت إني مش خايف من وجود شخص في حياتي.. ما خفتش من الالتزام ناحيته، أنا خفت من العكس.. خفت أموت لوحدي.!
نزلت في إيدي بوكيه ورد، خبطت على الباب.. فتحتلي، بصتلي بغضب، وكانت هتقفل الباب مرة تانية..
زقيت الباب بإيدي، ومنعتها تقفله.. قلتلها: أنا آسف لو كنت بضايقك، بتطفلي، والورد ده أرجو إنك تقبليه كإعتذار مني..
أنا وحيد.. قريت كتبك، كلها.. وحسيت كل كلمة قولتيها.. أنا بس عندي سؤال واحد، وأوعدك.. أوعدك لو كان يضايقك، أنا همشي، ومش هزعجك تاني أبدا..
فضلت باصة جوه عيني، كإنها بتقراهم.. بعدها رجعت بالكرسي المتحرك لورا..
وسعت لي السكة علشان أدخل، ودخلت..
جيت أقعد على الكرسي، قالتلي: "بلاش تقعد هنا، حفيدي قاعد..!"
المرة دي ما استغربتش..
سألتها: ممكن أقعد فين؟
شاورتلي على مكان.. وقعدت.
قالتلي: حابب تعرف إيه؟
قلتلها: الأصوات.. اللي سمعتها.
ابتسمت وهزت راسها.. قالتلي: كل شئ ممكن.. كل حاجة ممكن تتخيلها، حقيقة.
دول عيلتي..
شاورت بإيديها على صورة متعلقة على الجدار..
قمت وقربت منها..
كانت صورة ليها وهي قاعدة على الكرسي المتحرك.. لوحدها، في كادر واسع جدا!
قالتلي: شايفهم؟
بصتلها وهزيت راسي بالنفي..
قالتلي: غمض عينيك.. واتخيل ست عجوزة، عندها عيلة كبيرة، زي اللي قريته تمام..
عملت كده، غمضت عيني، وافتكرت كل حاجة قريتها عن حياتها..
فتحت عيني.. وشفتهم..
شفتهم في الصورة حواليها،
وشفتهم حواليا..
ولد وبنت صغيرين في الصالة بيجروا ورا الكورة، وبيحدفوها لبعض، بنت كبيرة بتحضر الأكل وماسكة طبق السلطة، وبتحطه على السفرة، سمعتهم، ابنها بيتكلم في التليفون، وبيعتذر عن حضوره الشغل، زوجها قاعد جنب شباك لابس نضارة بيشرب فنجان قهوة، وبيقرا الجرايد..
ولد صغير قاعد على الكرسي وبيلعب في تاب! كلب بيجري ورا القطة وهي بتجري قدامه في دايرة..
بصتلها بذهول: إزاي؟
قالتلي: كل شئ ممكن..
الزيارة المرة دي كانت طويلة..
سمعتهم، وشفتهم، وكمان أكلت معاهم.. ومعاها.. ما أقدرش أقول بعد النهاردة إن ده مجرد خيال!
لإني ساعتها هكون بشكك في قوايا العقلية.. كل شئ كان حقيقي.. أكتر من الحقيقة نفسها..
الحقيقة إنها مكانتش وحيدة..
بس أنا كنت لسه وحيد..
..
كلمت روز، صديقة قديمة، مكنتش بفكر في أي حاجة تانية غير إني محتاج أدخل حد في حياتي. أنشغل بيه، وبمشاكله، وبحكاياته، وينشغل بهمي.
بدأنا نتقابل، نشرب قهوة سوا، أوصلها الشغل.. لحد ما اعترفتلي انها كانت بتحبني، وفرحت لما افتكرتها، ورجعت اتصلت بيها بعد غياب..
وأنا .. أنا حبيتها... وحبيت وجودها.. مبقتش خايف المرة دي، غير من غيابها..
لما زارت بيتي، لقت كتب جارتي العجوزة، كانوا نسخ أصلية.. عجبوها، وقالت إنها من أشد المعجبين بيها..
ما صدقتش لما قلتلها إنها جارتي..
صرخت من الفرحة، وقالتلي: ممكن أقابلها؟
بالفعل أخدتها، ونزلنا.. خبطت على الباب.. محدش فتح.. قلقت..
خبطت تاني.. بس الحمد لله المرة دي فتحت..
قلتلها إني قلقت عليها، قالتلي، أنا بخير.. بس الأولاد كانوا بيتنططوا قريب من الباب..
سمحتلنا بالدخول..
عرفتها على روز .. حبتها..
وقلتلها إن إحنا نوينا نتجوز.. دمعت وقالتلي..
"أنا مبسوطة عشانك، عشان مش هتكرر نفس غلطتي.."
قلتلها: "مش هأموت وحيد"
ابتسمتلي..
وروز مكانتش فاهمة، بعد جوازنا بشهرين، جارتي ماتت..
الباب بتاعي خبط في عز الليل، فتحت مالقتش غير قطتها.. نزلت بسرعة..
كان الباب مفتوح، جارتي كانت في أوضتها، مغمضة عينيها، مبتسمة..
كانوا حواليها.. كلهم..
مكانش حد يقدر يشوفهم..
كل الناس، والصحف كانوا بيشفقوا عليها، وعلى إنها ماتت وحيدة في شقتها.. بعد كل العمر ده..
بس محدش كان عارف هي أد إيه محظوظة غيري..
محدش قدر يعرف سرها.. غيري..
على قبرها، حطيت ورد، ولزقت قصاصة ورق من كتابها..
"لن أواجه الموت، وأنا وحيدة."

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جزء مفقود في الترجمة

Black Mirror - New written episode.

مبقاش سر