قهوة بالبندق لشخصين




كان يتحدث بلهجة مثيرة للسعادة، لم يسبق لي أن استمعت إلى شخص يتحدثها سوى على التلفاز، في المسلسلات التركية المدبلجة.
بينما كنت أحتسي قهوتي، وأباشر عملي في المقهى، سمعته يتحدث إلى النادل، بطريقة مُهذبة، ولهجة مُحببة، ويطلب طلبي المفضل (قهوة بالبندق) مما أثار فضولي لرؤيته. التفت لأجد شخصا كفيفا، يحمل كوب قهوة، وعصا في اليد الأخرى، ويتحرك في اتجاه احدى الطاولات القريبة مني..
كان يعرف المكان كأنه يراه..
جلس في هدوء، واحتضن بيديه كوب القهوة. توقفت عن العمل تماما.. ودارت في رأسي مئات الأسئلة.
كانت عيناه زرقاوين، مُطفأتين.
كنت أنظر إليه، وكان ينظر بإتجاهي.. وكان الفرق بين ذلك وذاك يجعل الغصة في قلبي تنمو.
ابتسم، فخجلت للحظة، ثم عدت إلى العمل مرة أخرى..
في اليوم التالي، رأيته يفعل نفس الشئ.. يجلس على نفس الطاولة، يمسك كوب القهوة بنفس الطريقة، يجلس في هدوء ويبتسم..
في اليوم الثالث، لاحظت لأول مرة وجود خاتم زواج بإصبعه!
كتبت قصة من بحر خيالي عن المرأة التي يُحبها.. كتبتها تشبهني.. ربما لأن شيئا بداخلي، عندما كنت أنظر إليه،
-إلى عينيه المطفأتين وابتسامته التي توحي بالرضا- كان يشعرني بالسعادة.
في اليوم الرابع كانت لدي مشاكل كثيرة تتعلق بالعمل.. تلقيت مكالمات هاتفية سيئة، وأخبار قاسية، لدرجة أنني لم أفكر في البحث عنه. ولم تتفحص عيني المكان كي تلقي عليه التحية في صمت مثل كل مرة.
أخذت قهوتي وجلست في هدوء، وأنا أشعر أن عالمي كله ينهار من حولي.. إنني على وشك خسارة عملي الوحيد، إنني أشعر بالوحدة أيضا، حتى أن القهوة لم يكن طعمها معتدلا كما كل مرة! كل ذلك قد حثني على البكاء.
إلى أن وجدته يقف أمام طاولتي.. يبتسم ويطلب مني أن آذن له بالجلوس.
توقفت عن البكاء، ولم أدرك ما الذي يفعله هنا، أمامي.. !
طلبت منه الجلوس.. جلس مبتسما وهو يضع عصاه أمامه ويمسكها بيديه..
ثم قال: "يوم عصيب؟"
ابتسمت وقلت له: "نعم.."
ثم قفز ذلك السؤال في ذهني: "كيف علم بالأمر، كيف علم بأمري من الأساس؟"
وقبل أن أسأله.. بدأ في التحدث مجددا..
"لقد شعرت بخيبة أمل تسافر من طاولتك وتعبر عبر المقهى حتى وصلت إليّ، لقد تتبعتها حتى أوصلتني إليك.."
ابتسمت من طريقته في التحدث، ولطفه الزائد وأجبته.. "لديك حاسة قوية"
فضحك وقال: "نعم، سوف تذهلين من الأمور التي يمكنني فعلها، إنني –وأتمنى أن تبقي الأمر سرا بيننا- بطل خارق"
ضحكت مرة أخرى.. ومرة أخرى.. وأخذنا الحديث حتى نسيت همي تماما..
ثم نظرت إلى خاتم زواجه، وسألته: "متزوج؟"
فإختفت البسمة من وجهه لثوانٍ.. ثم ابتسم بطريقة مختلفة، ابتسم ابتسامة تحمل الكثير من الألم أكثر مما تحمل من معناها.
وقال: "لقد توفاها الله."
اعتذرت فورا، ثم ثار فضولي إلى أن أعرف قصته كاملة.. لكنه هم بالنهوض، وقال: "حسنا، يجب أن أغادر الآن.. لقد زالت رائحة الخيبة الآن، ولكن حقا، لقد أخبرني النادل أنكِ تستمرين بالتحديق إليّ طوال الوقت، وذلك ليس عدلا لذا قد أردت رؤيتكِ"
فسألته بغباء ممزوج بالحرج: "رؤيتي؟"
فضحك ثم قال: "لم أر ذلك المقهى قط، تطلب الأمر بعض الوقت حتى عرفته تماما.. والمعرفة أعمق من الرؤية"
سألته: "وهل .. عرفتني؟"
فقال: "سيتطلب ذلك وقتا"
فقلت: "حسنا، يبدو أنني أمتلك الكثير من الوقت.."
ابتسم لي، ثم غادر.. ولكننا كنا نتقابل كلما نذهب إلى المقهى يجلس معي على نفس الطاولة، ونتبادل الحديث.. ونطلب قهوة بالبندق لشخصين.. 
كان جيدا في امتصاص حزني، وكنت أفقد عقلي كلما تجاذبنا أطراف الحديث، ظل يذكرني بأننا لم نعرف أسماء بعضنا في أول حديث بيننا.. لقد نسينا تماما..
ولكنه كان شيئا يستخدمه ليثبت لي أن المعرفة أعمق من كل شئ، وأنه عرفني أنا قبل اسمي، وقبل رؤية وجهي..
كان صديق القهوة، والحديث الجيد.. كانت القهوة تصبح ذات طعم أكثر قوة وجمالا كلما تحدثنا سويا.
كان بشكل ما يسحبني من حزني، ويشعرني أن هنالك دوما خطة كبرى، وشئ أكبر مما يحدث لي، ومما أشعر به..
إلى أن جاء ذلك اليوم، الذي قص فيه عليّ حكايته، أو بالأحرى حكايتهما..
كان عامر وزوجته ساجدة، من اللاجئين الذين تم اجبارهم على ترك بلادهم، تم قصف بيتهم، وكانوا قد خسروا أحباءهم وذويهم بالفعل منذ زمن بعيد.. لم يكن لديهم سوى بعضهم البعض..
وعندما كان عامر وساجدة والعشرات معهم على متن قارب يحملهم في منتصف البحر، ويستثقل حمله، لا لأوزانهم لكن لأحزانهم.. حدث الشئ الذي يحدث دائما..
هنالك بكى.. بكى ولم يستطع أن يكمل الحديث، لكني عرفت أنه قد خسرها، لم يستطع انقاذ ساجدة أو ابنه الذي تحمله في أحشائها..
سألته كيف فقد بصره، لكني كنت أعرف مسبقا الإجابة..
قال بصبر ورضا: بسم الله الرحمن الرحيم " وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ"
وقال أيضا: "إنني محظوظ للغاية، إنني أرى صورتها طوال الوقت، وذلك يجعلني أبتسم، لا أستطيع رؤية أي وجه أو شئ، لكنها كانت أخر ما رأت عيني.. وتلك الصورة لن تُمحى قط.."
كانت تعجبني طريقة حديثه عن ساجدة، وذلك الحب العظيم الذي يحمله في قلبه لها.. وأحببتها لأنها كانت تشبهني.. ولأنها كانت أجمل من القصة التي كتبتها عنها، وأفضل مني..
ظلت صداقتي مع عامر قائمة لأكثر من عام، كنت أراه ويراني.. ورؤيته المعرفة.
كنت أقع في حبه، وأتعلم منه، وكان يخبرني، أنني أشعره بالندم لأنه قد فقد بصره ولم يراني.
وأخبرني أنني أشبهها.. أشبهها في حديثها، وفي قلقها، وفي فضولها..
لم يكن ذلك يؤرقني، لم يكن حبه لها عائقا بيني وبينه، لقد كانت جزءا منه، جزءا من الشخص الذي أصبح جزءا مني..
تزوجنا وقضينا عاما أخر سويا، ورزقنا بآدم..
سيسألني آدم يوما ما كيف التقيت بوالده، وكيف أحببته رغم كل شئ. سأخبره بأنني قد رأيته أولا.. وهو أول من عرفني على الإطلاق.



 ©أسماء عبد الناصر

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جزء مفقود في الترجمة

Black Mirror - New written episode.

مبقاش سر