الحساء الأخير

"إنه الحساء الألذ على الإطلاق" ضحكت ماجدة وقالت: "أعلم" ، ثم سألتني: "هل أسكب لك المزيد؟"
.. لقد تقابلنا منذ سنة واحدة، في عرس أحد الأصدقاء، كانت ماجدة تقف قرب مائدة الطعام، تتحدث مع صديقة لها.. وتحتسي الصودا. امرأة فاتنة بمنتصف العقد الثالث، ترتدي فستانا أسودا، وهذا أمر قد أعجبني، إذ اعتقدت أن الأسود دائما يتطلب جرأة كبيرة..
ظللت واقفا أمامها على مسافة مناسبة لا تفضح نظراتي إليها وتفحصي لابتسامتها الجذابة، وقوامها الآسر.
أجرب كل الكلمات والجمل التوددية في ذهني وأتدرب عليها، كأي مراهق يطلب من فتاة الخروج معه لأول مرة.
غادرت صديقتها، واستدارت إلى المائدة لالتقاط بعض الطعام في صحنها، كانت فرصة مناسبة، التقطت صحنا بدوري، واقتربت منها، ثم اخترت نفس الطعام الذي تختاره، وحينما لاحظت ذلك نظرت إليّ وابتسمت لي، كانت أسنانها ناصعة البياض، وحمرة شفتيها تضاعف من حدة بياض أسنانها.. سألتني: "هل ستضع كل شئ أضعه حتى لو لم تكن تحبه!؟"
فابتسمت وأجبتها: "نعم"
ابتسمت لي مرة أخرى وذهبت للجلوس على إحدى الطاولات بمفردها.. وضعت الطعام جانبا، ثم ذهبت إليها وجلست على طاولتها عقدت حاجبيها وأمسكت بصحنها ثم همت بالقيام، فأمسكت ذراعها، وقلت: "اممم، تخافين من الرجال إذن!"
نظرت إليّ بتحدٍ ووضعت صحنها مرة أخرى، وجلست، ثم قالت بثقة: "بل يخاف الرجال مني."
نهضت مرة أخرى، وهي تنظر في اتجاه العروس التي على وشك القيام برمي الزهور.. ثم نظرت إليّ وقالت: "لم تكن فرصة سعيدة"

شاهدتها تغادر وتقف خلف العروس، وسط الفتيات التي يصغرنها سنا ولكنها كانت أجملهم.. كانت قوية، وجميلة، كانت بالضبط نوعي المفضل، إلا أن ماجدة.. لم يكن يشبهها أحد.
شاهدتها وهي تلتقط باقة الزهور، ثم غادرت مع إحدى صديقاتها، لم يتسن لي الحديث معها مرة أخرى،
سألت عنها أحد الأصدقاء الذين قد حضروا الحفل، ففضولي لم يتركني تلك الليلة أنعم بنوم هادئ.
وعرفت أنها قد تزوجت مرتين، وأن زوجيها قد تُوفيا.. كانت أرملة للمرة الثانية!
وهو الأمر الذي لم أكن أتوقعه.. وحينها ترددت في أذني جملتها حينما قالت: "بل يخاف الرجال مني."
قررت ترك الأمر برمته على ما هو عليه. وتجاوز تلك الليلة.
وبعد ثلاثة أشهر تقابلنا مرة أخرى، كان لديها عمل ما لتنجزه بالشركة التي أعمل بها. وقفت أمامها وأنا أتذكرها جيدا.
ضحكت إلي وقالت: "لقد رأيتك مسبقا!"
فقلت: "نعم .. منذ ثلاثة أشهر، العرس، البوفيه!"
فقالت: "اهااا.. إنه أنت."
تبادلنا التحية، والحديث لبعض الوقت، أخبرتني عن الغرض التي قد أتت من أجله، ثم كانت على وشك الرحيل، حينما سألتها: "هل يمكننا أن نتقابل ثانية؟"
فقالت: "لماذا؟"
أصابني الحرج، وكنت على وشك الاعتذار منها ثم قالت: "أود أن أقابلك ثانية"
تقابلنا مرة بعد مرة، وعرفتها أكثر، وفي كل مرة كنت أقع حبا في جمالها.
إلى أن وجدت نفسي أطلب منها الزواج!
تزوجنا بعد مرور ستة أشهر على لقائنا الأول.. كنت سعيدا للغاية معها، كانت عطوفة، وحانية، تصنع لي الطعام بنفسها، وتؤمن لي الراحة.. كانت تحبني وكنت أحبها..
لكنني أخطأت..، كانت الحياة مثالية، وربما ذلك قد أصابني بالسأم.. عرفت أن ماجدة لا يمكنها أن تنجب قبل أن نتزوج وكنت راضيا بذلك، لكنني لم أعد راضيا بتلك الفكرة بعد مرور أشهر على زواجنا.
لاحظت ماجدة تغيري، وحينها خضنا حديثا طويلا، حديثا مخيفا، كان لابد لي أن أخوضه معها قبل ذلك الوقت.
"أتريد أن تعرف سرا؟"
-          "يمكنكِ إخباري كل شئ!"
"زوجي الأول، لقد كان السبب في عدم قدرتي على الإنجاب، كان قاسيا وعصبيا طوال الوقت، وعندما كنت على وشك ولادة طفلي، قام بضربي، وهنالك خسرت كل شئ.."
كانت ماجدة تبكي وهي تقص لي ما حدث، ثم لمعت عينيها وقالت: "لكنه أخذ جزاءه، لقد تحقق العدل"
لم أفهم تماما ما رمت إليه، ولكن النظرة على وجهها كانت مخيفة!
سألتها بحذر: "وكيف مات؟"
فأجابت: "نوبة قلبية"
فسألت سؤالا أخرا سخيفا: "وكيف مات الثاني؟"
فقالت: "لقد كان يخونني"

غادرت، وذهبت لإكمال تنظيف ملابسي..
بينما كنت مشوشا وأصابتني اجابتها الأخيرة بالحيرة، لم أسألها كيف أساء لها زوجها الثان!
..
في الأيام التالية، كنت أفكر بالأمر طوال الوقت، ماذا لو علمت بأمر تلك الفتاة.. ماذا لو كشفت أمر خيانتي لها، وضجري من عدم قدرتي على الحصول على أطفال!
كنت أزداد تشويشا وخوفا، وكانت تزداد في معاملتي بلطف، وحب!
الأمر الذي دفعني إلى القرار بمصارحتها بكل شئ، وبأنني أريد الانفصال عنها. وأن الأمر قد حدث سريعا والآن لم أعد موقنا مما أريده!
لكن بشكل ما كانت تمتلك القدرة على جعلي لا أنطق بأي كلمة. كنت أبتلع الكلمات التي أتدرب عليها طوال اليوم، وأذهب للنوم بجانبها، مطمئنا لأنني لم أخبرها، وخائفا في الوقت ذاته!
استمرت في معاملتي بشكل تسبب لي بالاحراج أمام نفسي.. فمحوت من ذهني كل تلك الأفكار السوداء التي تراودني.
لدي زوجة جميلة محبة. ماذا أريد أكثر من ذلك؟
قررت ألا أخطئ مرة أخرى في حقها أو حق نفسي، واعتبرت خيانتي لها نزوة عابرة، أقسمت بيني وبين نفسي ألا تحدث مرة ثانية..
اليوم هو نفس اليوم الذي تقابلنا فيه منذ عام..
أحضرت لها هدية، وجهزت لي الطعام، خاصة ذلك الحساء الذي أحبه، ولم أر أحدا يصنعه أطيب مما تفعل هي.
كان البيت مختلفا حين وصلت، وطاولة الطعام مُعدة مسبقا..
كان يوما مميزا بالنسبة لكلينا..
ارتدت نفس الفستان الأسود الذي رأيتها به أول مرة، وجلسنا سويا على الطاولة..
تغزلت بها، وأعطيتها هديتي، وأخبرتها بأنني أحبها.. بدأنا طعامنا، كان الحساء لذيذا
فسألتني: "هل أسكب لك المزيد؟"
فلاحظت أنها لا تأكل! .. سألتها: "لماذا لا تتناولين الطعام؟"
ضحكت بصوت عال، ثم اختفت تلك الضحكة وتحولت إلى غضب ملأ قسمات وجهها
كانت تعتري وجهها تلك النظرة الشيطانية التي رأيتها من قبل..
ثم أخبرتني: "متى كانت أخر مرة خنتني بها؟"
حاولت اجابتها لكن حلقي كان جافا، بدأت معدتي في التقلص، وبدأت في التعرق..
سألتني: "هل يعجبك فستاني؟"
ثم أكملت: "إنه مناسب تماما لليوم، فاليوم سوف أصبح أرملة، والأسود ملائم لهذه المناسبة."





 ©أسماء عبد الناصر

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جزء مفقود في الترجمة

Black Mirror - New written episode.

مبقاش سر