أعدّي لي الأرض كي أستريح، فإني أحبّكِ حتى التعب




لو كنت زيي مريض اكتئاب، سواء تخلصت منه أو لسه بتعاني.. فهتفهمني لما أقولك إني وقت ما قابلتها كانت الدنيا منزوعة الألوان. رمادي وأسود طاغي على كل حاجة. 
هتفهمني لما أقولك إنك صعب تحب، ممكن تقول لشريكك إنك بتحبه. بس مش هتحس بالحب ده غير وإنت مُعافى تماما. وأنا كنت في المصحة.. محاولة انتحار طازة. 
كنت واثق في نفسي طول الوقت.. واثق إني مش هوصل للمرحلة دي، رغم إني مش بفكر غير فيها. 
بس أوقات بتسكر من الاكتئاب. عقلك بيكون مُغيب ومش شايف قدامك غير طريق واحد. الموت. لكن هي كل حاجة بتلمسها بتخليها تلوّن. كانت جميلة، جميلة لدرجة إني شفت في الحياة حاجة عشان أحبها. من النوع اللي يخطف قلبك أول ما تشوفها. بتحب الألوان.. 
أول مرة شوفتها كانت لابسة فستان أصفر، وأنا كنت لابس تيشرت أسود. كانت بتمثل كل حاجة حلوة في الحياة.. وأنا كنت بمثل شبح بيرقص على حافة الموت. 
كنت مهتم لأول مرة أعرف مين دي، وإيه اللي جابها هنا، وليه شكلها حابب الحياة أوي كده، ليه بتضحك، ليه بتبصلي لوقت طويل، ولما ألاحظ بتبعد نظرها عني!

عرفت إن أخوها الوحيد مات هنا، في المصحة.. رغم محاولاتها الشديدة إنها تنقذه.. لكنه في يوم قبل زيارتها شنق نفسه.. وفاة أبوهم وأمهم كانت السبب في اكتئابه وانعزاله.. وانتوا عارفين القصة دي بتنتهي إزاي.. 
بس هي وزي ما عرفت، فضلت تحاول تنقذ ناس تانية، فضلت تيجي هنا.. كانت بتتكلم مع الناس وتحفزهم.. بتشتريلهم هدوم ملونة، ورد، كتب.. أفلام.. حتى أنا اشترتلي كتاب لمحمود درويش كان عندي فضول أقراه، اسمه في حضرة الغياب. ووصلت للصفحة اللي كانت معلمة فيها بالماركر على سطر 
"الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء" 
عرفت إنها سألت عني، وعن حياتي.. ويمكن السطر ده كان رسالة. 
رجعتلها الكتاب، وكانت دي أول فرصة أتكلم فيها معاها..

- قريته؟ 
* قريته، وعجبني.. 
- و .. 
* شفت الرسالة. 
- أتمنى إنك تلاقي حاجة حلوة في الحياة.

فضلت باصصلها، على وشك إني أقولها إني فعلا لقيتها، بس الكلمة اختفت في الضلمة ومقولتهاش.. قلتلها إني سبتلها رسالة أنا كمان.. 
في الصفحات الأولى.. فتحت الكتاب وبصت، لقت ماركر باللون الأخضر على جملة 
"اقترب مني لأعرفك"

ابتسمت وعينيها لسه باصة في الكتاب، وبعدين رفعتهم وبصتلي، وضحكت.. ومدت إيديها وقالتلي: "إزيك؟ .. أنا مريم.. وإنت؟"
سلمت عليها، وقلتلها: "إنتي سلمتي على شخص مصاب بالإكتئاب، ورغم إن الدكاترة بينكروا، بس أنا عارف إنه مُعدي.." 
ضحكت وقالتلي: "ما تخافش أنا منيعة.. مش ممكن هكتئب."

قلتلها اسمي "محمود"

قالتلي صدفة حلوة، أخويا كمان كان اسمه محمود. 
قلتلها عشان كده بتفضلي تبصيلي؟

اتكسفت جداً، ومشيت. 
فات 3 أيام من آخر مرة شفتها.. لأول مرة أفضل أفكر في حاجة غير الحياة وسودويتها، غير الموت والنهاية.. غير الوضع اللي أنا فيه، واللي وصلني لكده.. 
كنت بفكر فيها.. أول ما أصحى.. قبل ما أنام، لما أشوف حد بيضحك.. وقت الدوا... وكل ما أمسك كتاب.

فات أسبوع بحاله ومجاتش، خدت رقم تليفونها من ممرضة قريبة مني.. وكلمتها.. كنت حاسس بصوتها بيضحك، كنت بتخيل شكلها وهي بتكلمني.. 
كل حاجة كانت بتعملها كنت حابب أجربها معاها. 
قالتلي إنها هتناقش الماجستير الشهر الجاي، ومش هتقدر تيجي.. 
محاولتش أبين زعلي من ده.. فضلنا نتكلم طول الشهر.. 
وفجأة واحنا بنتكلم.. لما قالتلي: "أنا جايبالك كتاب جديد، بما إنك ما قرأتش لمحمود درويش قبل كده.. هيعجبك."

حسيت احساس كنت نسيته من أكتر من 10 سنين.. قلتلها: "وحشتيني" 
وكنت حاسسها فعلا. نفسي حالاً أشوفها وهي بتضحك، نفسي حالاً أشوفها وهي بتتكلم، نفسي حالاً ألمس إيديها، نفسي حالاً أبص في عينيها. بقيت بجرب معاها حاجات عمري ما فكرت إنها موجودة، أو إني ممكن أحسها. كنت حتى فاكر إني كراجل حتى لو مش مكتئب، لا يمكن أقع في حب ست بالسهولة دي..

قفلت السكة من غير ما ترد، فضلت طول الليل بفكر في اللي مفروض أعمله. 
من غير ما أحس كانت بتخليني أحارب الاكتئاب.. والحرب دي كل اللي عدوا عليها تعبوا، أو خسروا..

فضلت طول الأيام اللي مش بشوفها فيها أتحسن، واشتريت ليها كتاب، هروحلها يوم مناقشة الماجستير، وأشوفها.. متحمس أشوفها وهي بتتكلم على المنصة، وهي بتبصلي من بين الحضور.. ولما تتفاجئ بوجودي.

رحت، لبست بليزر نبيتي، وبنطلون بيج، أكيد هتلاحظ ده بسهولة لإني دايما بلبس اسود.. 
انبسطت لما شفت اسمها على البانر، جبت معايا ورد.. لو حد شافني وهو يعرفني مستحيل يصدق إن اللي قدامه ده كان بيحاول ينتحر من شهرين.. ومكانش شايف في الحياة شئ يستحق. واحد كان بيسخر من الحب، ويقول إنه شئ وهمي. دلوقتي عايش على أمل إنه ينال الحب ده.. بيتمسك بيه قبل ما يغرق.

دخلت، ومشافتنيش مكنتش قاعد قدام.. كانت جميلة كالعادة.. كل حاجة فيها كانت بتسعدني. 
بدأت المناقشة، وصورتي وصورة ناس في المصحة بتتعرض على البورد.. 
إحنا الحالات اللي كانت بتدرسها، لما سألت عليا.. سألت عشان أنا حالة!

جزء ما دلوقتي جوايا، جزء مُظلم.. كان على وشك إنه يفيض ويغرق كل حاجة هي عملتها.. نقطة حبرب بس كفيلة إنها تسود بحر.

قمت من مكاني حطيت الكتاب والورد في سلة الزبالة، شافتني.. 
وساعتها فضلت باصالي بإعتذار لكنه مش نافع.. مش كفاية.

تاني يوم أخدت كل متعلقاتي من المصحة، وخرجت.. رجعت بيتي. مفيش حاجة اسمها علاج، مفيش حاجة هتنفع.. 
وزي ما فتحت أبواب جديدة للنور في قلبي، فهي وجعتني وكسرت قلبي بطريقة جديدة.. كأنه بيتكسر لسه لأول مرة..

معرفش إزاي وصلت لبيتي، بس لقيتها واقفة قدامي.. في إيديها دبلة.. مخطوبة، أخدت امتياز في الماجستير.. قالت إنها عملت كده عشان تساعد الناس، وتساعدني أشوف إن الحياة فيها حاجة حلوة.. بالنسبة لأي حد تاني الموضوع كان عادي.. لكن أنا حبيتها.. 
كانت ماسكة الكتاب الأول اللي ادتهولي..

ملقتش رد أقوله ليها، فأخدت الكتاب علمتلها على كلمة.. واديتهولها.. 
فتحته وبصت عليها.. 
"ابتعد عني لأعرفك"

قبل ما تحاول تتكلم مرة تانية، قفلت الباب..

لكن مقدرش أقول إني بعدها رجعت زي الأول، شئ ما جوايا إتصلح، رغم حزني الشديد.. على الأقل رجعت الشغل، وكنت قادر أعمل ده كل يوم..

بعد سنة بالظبط قابلتها بالصدفة، حاولت أهرب منها لكنها لحقتني.. 
مكنتش عارف هرد إزاي عليها، هبصلها إزاي.. هقولها ليه ما رديتش عليها طول السنة دي وهي بتحاول تكلمني..

وقفت على مسافة مني وقالتلي: "إزيك؟"

هزيت راسي.. كنت حاسس إني لو اتكلمت حاجة جوايا.. جرح ما، هينفتح من جديد.. 
فضلت تعتذر في البداية، وقلتلها إني نسيت الموضوع.. 
وإني كنت مكبرة الحكاية لما زعلت وأخدت رد الفعل ده..

بصتلي وكأنها عارفة إني بكدب.. وقالتلي يعني مكنتش تقصد اللي قلته في الكتاب؟ 
قلتلها: "أنهي كتاب؟" 
قالتلي: "الكتاب اللي جيبتهولي يوم مناقشة الماستر"

ولما افتكرت كنت باعتلها إيه جواه.. مقدرتش أرد.. 
قالتلي إنها أخدت الكتاب، وشافت الكلام اللي كنت معلم عليه جواه..

كان كتاب "أثر الفراشة" برده لمحمود درويش.

كنت معلم فيه على:

- "ليتني حجر
لا أَحنُّ الى أيِّ شيءٍ"

- "أما القلب فإني أراه يتدحرج"

- "كنت هناك قبل شهر"

- "ذكرى أصابع، وذكرى رائحة، وذكرى صورة"

- "الكلمات التي لم يتسن لأصحابها أن يقولوها"

- "لو كان قلبكِ هدهدا لتبعته"

- "أأراك ثانية؟"

- "ثم ماذا؟"

- "أنا خائف"

- "لنقول مرة واحدة: (نحن)"

- "فيقول قلبي"

- "مرت فتاة من هنا"

- "أحنّ إليكِ وأنتِ معي."

قالتي إنها فهمت الرسالة.. قلتلها وأنا فهمت إني كنت موهوم. 
بصت في شنطتها وقالتلي: "تعرف إني شايلة الكتاب من يومها معايا؟"

استغربت، وطلعته.. وقالتلي أفتحه على أخر صفحة كنت معلم فيها.. 
لقيتها معلمة باللون الأصفر.. بعد الكلام اللي كنت معلّم عليه.. 
"نظرتك إليّ تذوبني، فأصير موسيقى" 
"وربما قالت له: أحضنكَ"

بصيت ليها، وكنت مش فاهم.. قلتلها بس إنتي مخطوبة.. إنتي مع حد تاني.. 
عرفت إنها سابته، قالتلي إن اللي بينهم مكانش حب.. كان احترام متبادل، توافق.. قالتلي وهي باصة في عيني إنها معاملتنيش على إني حالة.. مكنتش مصدق..

بصيت لأخر كلمة في الكتاب.. واديتهولها مرة تانية.. 
قلتلها متشكر لو كنتي بتعملي ده عشان حاسة بالذنب..

كنت هفهمها إنه ما ينفعش بعد ما جرحتني، أعرف إنها قرت اعترافي ليها.. ما ينفعش ترد عليا كأنها بتحبني.. أنا كفرت بالحب..

لكنها عرفت إني مكنتش مقتنع، وأنا بديها الكتاب، سابته وحضنتني.. من غير كلام.. من غير تفسير.. وساعتها عرفت إني بحبها.. لسه بحبها.. حاوطتها بإيدي.. وكنت خايف من اللحظة اللي تمشي فيها تاني وتسيبني..

قلتلها لو لمستي مريض اكتئاب ممكن تتعدي منه، قالتلي: موافقة. 
..

والحقيقة إنها كانت بتشفيني.. من غير ما تبذل مجهود.. خرجنا كتير، اتكلمنا أكتر.. بدلنا الكتب مع بعض..

اعترفتلها تاني إني بحبها.. 
علمت ليها في كتاب تاني: "أعدي لي الأرض كي أستريح، فإني أحبك حتى التعب.." 
وردت عليا: "ثم ماذا؟"

بعتتلها المرة دي أغنية.. 
"ثم تبقي.. ثم أبقى، ثم حلوة عنيكي ليه؟ عانقيني.."

تعليقات

  1. حبيت ... بس قصيرة جدا كانت محتاجة شوية احذاث اكتر بس كالعادة احيكي

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جزء مفقود في الترجمة

Black Mirror - New written episode.

مبقاش سر